مقال فهمي هويدي الممنوع نشره
المصدر
صفحة قاتمة يجب أن تطوى
كتب:فهمي هويدي
هذه ثلاث حكايات مصرية، لا اريد أن اصدقها، ولا استطيع أن اتجاهلها. واتمنى أن تكذب في أسرع وقت، شريطه أن يتم ذلك من خلال طرف يؤتمن على تقصي واستجلاء وجه الحقيقة أو الإدعاء في وقائعها.
[1]
ذات صباح. تلقيت من أحد الأصدقاء قرصاً مدمجاً (سي. دي) من صديق أبلغني انه يتضمن شريطاً من المهم أن أراه. وحين شاهدته على شاشة الكومبيوتر لم اصدق ما رأيت فيه وما سمعت، إذ روعني مضمونه، فسارعت إلى اغلاق الجهاز ولم أكمل المشاهدة. لكن الصور التي رأيتها والصيحات التي سمعتها ظلت تلاحقني مدوية في داخلي طوال الوقت. وإذ انتابني الشك في الشريط، خصوصاً أن لأهل الخبرة في هذا المجال كلاما كثيرا عن تقدم فنون التركيب والافتعال في صناعة أمثال تلك الأقراص والأشرطة، فإنني طلبت ممن هو ادرى مني بعالم الاتصالات وتقنياته أن يتحرى المواقع التي تهتم بهذه الأمور. بعد حين جاءني من يقول ان الصور التي رأيتها موجودة على شبكة الإنترنت، خصوصاً موقعي يوتيوب (youtube) وميتا كافيه دوت كوم، والأول مشهور على مستوى العالم، ويعد أكبر موقع معلوماتي لأفلام الفيديو. اضاف محدثي أن ثمة موقعاً باللغة العربية عن «التعذيب في مصر» تضمن تفصيلات كثيرة في الموضوع. وحين رجعت إلى تلك المواقع وجدت كلامه صحيحاً، حيث شاهدت مرة أخرى - ولم أكمل - ذات الصور والمشاهد، وبعد يومين فوجئت ببعض الصور الصاعقة منشورة في صحيفة «الفجر» (عدد 13/11)، مع تعليق قال كاتبه ما نصه: وصلني على البريد الإلكترونى فيديو تعذيب مواطن مصري في قسم بوليس، الفيديو منشور على مدونة «الوعي المصري» التي قال محررها انه مرسل إليه من مدونه أخرى اسمها «دماغ ماك»، التي قال صاحبها انه اكتشف الفيديو على «موبايل» جاره، فقرر نشره رغم أنه مقزز.
من هذه القرائن ادركت أن الصور متداولة بين أيدي كثيرين، على مواقع الإنترنت والهواتف النقالة ومن خلال الأقراص المدمجة. الأمر الذي يعني أن محيط انتشارها تجاوز النطاق المحلي إلى المستوى العالمي، ويعني أن الصور البشعة التي ظهرت والاستغاثات والصرخات التي ترددت خلالها ذاع امرها في كل مكان. وفي غياب أي تعليق على الموضوع أو ايضاح لملابساته وحدوده، فإن من يشاهد الصور سيتعامل معها باعتبارها حقيقة مسلما بها.
تعجز الكلمات عن وصف محتوى الشريط، الذي يسجل واقعتين على الأقل، لاثنين من المواطنين العاديين تم اقتيادهما إلى مكانين مختلفين، يرجح أنهما من أقسام الشرطة. احدهما وقف ذليلاً وبائساً وهو يتلقى سيلاً من الصفعات على وجهه وقفاه من ضابط ظل يسخر منه وهو يعاجله بها، في حين أن هناك آخرين جلسوا في المكان يتضاحكون، ويشجعون الضابط الذي ذكروا اسمه وظهرت رتبته العسكرية في الصور. المواطن الثاني القي علي الأرض، وبدا نصفه الأسفل عارياً، وساقاه مرفوعتان، وثمة صوت لضابط يتوعده وينهال عليه بالسباب والشتائم البذيئة. وهو في هذا الوضع جيء بعصا هتك بها عرض المواطن، الذي اصيب بلوثة جعلته يصرخ بأعلا صوته مسترحما ومستغيثاً «بالباشا» الذي ظل يواصل اطلاق شتائمه الجارحة، التي كان سب الأم قاسماً مشتركاً بينها.
[2]
الحكاية الثانية نشرتها صحيفة «واشنطن بوست» في 10نوفمبر الحالي. والشخصية الرئيسية فيها مواطن مصري حاصل على حق اللجوء السياسي في ايطاليا. اسمه حسن مصطفى اسامة وشهرته «ابو عمر المصري». صاحبنا هذا اختطف من ميلانو في عام 2003، اثر عملية قام بها عملاء المخابرات المركزية الأمريكية مع جهاز المخابرات الإيطالي. ما اثار القضية مجدداً هذه الأيام أن المصري المخطوف سرب برسالة من 11صفحة إلى صحيفة «كوريري ديلاسيرا» روى فيها كيف اختطف اثناء سيره في احد شوارع ميلانو، وكيف نقل إلى مصر ليحقق معه اثنان من «الباشاوات». أحدهما مصري والآخر أمريكي، وكيف تعرض للتعذيب عن طريق الصعق بالكهرباء إلى أن فقد السمع وتدهورت حالته الصحية. هذه الرسالة أثارت ضجة في روما، لأنها جاءت دليلاً آخر أثبت ضلوع المخابرات الأمريكية مع نظيرتها الإيطالية في ترتيب خطف أبو عمر. واحدثت الضجة صداها في اوساط الاتحاد الأوربي. التي ادركت أن حكومة سيلفيو برلسكوني السابقة تسترت على العملية، كما اكتشفت أن رئيس المخابرات الإيطالية، أدلى بشهادة كاذبة حول الموضوع امام البرلمان الأوربي.
ما يهمنا في السياق الذي نحن بصدده هو المعلومات التي اوردها ابو عمر في رسالته المنشورة في روما، وعممتها الواشنطن بوست، وتحدثت عن وقائع التعذيب الذي تعرض له الرجل في مصر. الأمر الذي يضيف صفحة جديدة إلى سجل المعلومات التي سبق أن نشرتها الصحيفة الأمريكية ذاتها عن ترحيل السلطات الأمريكية بعد 11سبتمبر لأعداد من المشتبهين إلى ثلاث دول عربية (حددتها بالاسم)، لانتزاع المعلومات منهم بالوسائل التي لا تجيزها القوانين الأمريكية أو الأوربية.
رغم أن القصة نشرت في واشنطن في (10/11)، كما أن صحيفة «مصر اليوم» عرضت في عدد (14/11) تقريرا مفصلا حول الموضوع اعده المركز الكندي لأبحاث العولمة، فإن الجهات المعنية في مصر التزمت الصمت إزاء المعلومات، الأمر الذي اسهم في ذيوع البلبلة والشك والحيرة.
الحكاية الثالثة لا استطيع أن اطيل فيها أو أفصل، لأسباب عدة أهمها أن موضوعها شهادة لأحد المعتقلين السابقين، اسمه محمد الدريني، الذي قدر له أن يقضي خمسة عشر شهراً متنقلاً بين السجون والمعتقلات في محافظات مصر. وفي تجواله ذاك اقترب من العالم الآخر الذي تسمع عنه ولا نراه، وعاش بين القابعين في ارجاء ذلك العالم، (بعضهم منذ ربع قرن على الأقل، أي منذ اغتيال الرئيس السادات في عام 81) وسجل ما رآه وما سمعه في كتاب من مائتي صفحة صدر مؤخراً تحت عنوان «عاصمة جهنم».
رغم أن لي خبرة متواضعة في سجون مصر قبل نصف قرن، إلا أن الذي قرأته في الكتاب فاجأني وافزعني، إذ وجدته يتجاوز حدود الخيال. ويرسم صورة لأهوال لا تخطر على قلب بشر. غير أنني مازالت رافضاً تصديق ما فيه، لأن مؤلف الكتاب طرف وليس محايداً. مع ذلك فإن محتواه، الذي تضمن مالا حصر له من المشاهدات والوقائع والأسماء، التي تحدثت عنها تقارير منظمات حقوق الإنسان بدرجة أو أخرى. يرشحه لأن يكون نموذجاً للتحقيق والدراسة، سواء من جانب المنظمات المعنية أو أي لجنة برلمانية لتقصي الحقائق.
[3]
لأنه لا يوجد دخان من غير نار، فإنه يتعين علينا أن نعترف بأمور ثلاثة، أولها أن التعذيب له تاريخ في مصر منذ العصر الملكي. وقصة «العسكري الأسود» الذي كان يؤمر بانتهاك عرض الرجال رمزاً لتلك الحقبة. الأمر الثاني أن نطاق التعذيب اتسع بشكل ملحوظ في اعقاب ثورة 23يوليو، التي ذاع فيها أمر السجن الحربي وقائده حمزه البسيوني، وانضم إليه في تلك الحقبة معتقلا أبو زعبل والوادي الجديد. وخريجو سجون تلك المرحلة لهم كتابات عدة صورت ما جرى وراء جدرانها. الأمر الثالث أن اغتيال الرئيس السادات في عام 81، واعلان الطوارئ منذ ذلك الحين، كان بمنزلة نقطة تحول كبيرة في ذلك المسار. إذ في هذه المرحلة حدث تطوران مهمان، فمن ناحية ترتب على اتساع نطاق المواجهة بين اجهزة الأمن وبين الجماعات المتطرفة والإرهابية أن جرى التوسع في عمليات الاعتقال والتعذيب، مما ادى إلى انتشار الظاهرة واستفحالها، بحيث شملت المواطنين العاديين وليس الإرهابيين أو المعارضين السياسيين وحدهم. يسر ذلك وشجع عليه أن قانون الطوارئ اطلق يد الأجهزة الأمنية في التعامل مع المجتمع خارج القانون، خصوصاً في حالات الضبط والاحتجاز.
من ناحية ثانية فإن طول المدة التي طبق فيها قانون الطوارئ احدث تغيراً في ثقافة وسلوك الأجهزة الأمنية، التي باتت تتصرف وكأن الطوارئ الأصل، أما العمل بقواعد القانون العادي وضماناته فقد صار في عرفها استثناء لا يلزم ولا يعتد به. وهو ما سوغ لبعض الباحثين أن يصفوا الحالة بحسبانها نوعاً من «ادمان» الطوارئ، الذي تمكن من سلوك الأجهزة الأمنية، حتى اصبح علاجه أو التطهر منه مستعصياً، ويتطلب مثابرة وجهداً كبيرين. ولعلنا لا نبالغ كثيراً إذا قلنا أن العمل بقانون الطوارئ لاكثر من ربع قرن أضفى على التعذيب شرعية نسبية، في اوساط اجهزة الأمن على الأقل، سمحت له بأن يستفحل وأن يصبح خارجاً عن السيطرة بمضي الوقت.
في هذا الصدد فإننا لا نستطيع أن نتجاهل الدور الذي اسهمت به اجواء ما بعد 11سبتمبر في اشاعة التعذيب وغض الطرف عنه، حيث اعتبر التعذيب لاستخلاص المعلومات من «ضرورات» الدفاع عن الأمن. وهو المنطق الذي سوقته وسوغته الولايات المتحدة، وطبقته على غير الأمريكيين بطبيعة الحال، الأمر الذي وفر غطاء مناسباً لممارسات الأجهزة الأمنية في كل العالم العربي بلا استثناء. التي تذرعت بالحرب على الإرهاب لكي تبرر سلوكها وتتوسع فيه. وهو ما سجلته تقارير المنظمة العربية لحقوق الإنسان، وغيرها من المنظمات الدولية المعنية بالأمر.
[4]
يحمد للمناخ السائد في مصر الآن أنه بات يحتمل الحديث في الموضوع بقدر لا ينكر من الصراحة، وتلك ايجابية يلمسها أي قارئ للصحف المستقلة والمعارضة بوجه اخص، الأمر الذي يشجعني على الدعوة إلى اغلاق ذلك الملف، ليس فقط دفاعاً عن كرامة الإنسان والمجتمع المصري، ولكن أيضاً حفاظاً على صدقية الأطروحات التي تتحدث عن الإصلاح السياسي. ذلك أنه لا محل لاطلاق تلك الأطروحات طالما بقى مواطن يعذب أو احتجز بريء في الأقبية والسجون.
أدري أننا بازاء وضع معقد استفحل فيه دور الأمن حتى تمددت اجهزته افقياً ورأسياً، فتضخم عددها وصارت اذرعها حاضرة بقوة في مختلف مفاصل الدولة. وهو ما احدث خللاً في موازين كثيرة. فتقدم الأمن على السياسة، وتوترت العلاقة بين السلطة والمجتمع التي اصبحت قائمة على التربص والخوف. إذ في ظل استمرار نظام الطوارئ تم نسخ شعار «السلطة في خدمة الشعب»، الذي رفع يوما ما، دلت شواهد الواقع على أن الشعب صار في قبضة الشرطة.
ذلك وضع لا يستقيم مع أي «اصلاح» فضلاً عن أنه ضد التاريخ. ولا يكفي في علاجه الإعلان عن الغاء قانون الطوارئ واستبداله بقانون للارهاب لا يكاد يختلف عن سابقه إلا في العنوان، لأن الأهم والأخطر من الاثنين هو عقلية الطوارئ، التي ادمنت إهدار القانون العادي وضماناته، وسوغت الاعتداء على الحريات العامة، وتعاملت مع المجتمع باعتباره خصماً يتعين مراقبته وتأديبه طول الوقت.
ان اغلاق ملف التعذيب وطي صفحته هو الخطوة الأولى للتقدم على طريق الإصلاح المنشود الذي يلوح به هذه الأيام. ولن يتم ذلك إلا بالمصالحة مع المجتمع من خلال أمرين على الأقل، أولهما إطلاق سراح المعتقلين الذين يجدد حبسهم لسنوات طويلة، رغم انتهاء محكومياتهم أو الحكم ببراءتهم، وثانيهما التطهر من ممارسات السنوات السابقة ومعالجة جراحاتها واحزانها. واكرر هنا ما سبق أن قلته داعياً إلى تمثل تجربة لجان «الحقيقة والمصالحة» التي شكلت بالمملكة المغربية، واستفادت فيها من تجربة جنوب افريقيا بعد سقوط نظامها العنصري. وهي اللجان التي رعت اطلاق المسجونين وتعويض الذين تعرضوا للتعذيب أو الذين فقدوا معيليهم من جرائه. وفي الوقت ذاته اعتذرت للمجتمع بشجاعة عن الممارسات التي ادت إلى كل ذلك. وهو ما أكسب التجربة احترام الجميع وثقتهم، فضلا عن أن السلطة كبرت بها ولم تصغر.
أخيراً فإنني أكرر أن التعذيب والإصلاح نقيضان لا يجتمعان، تماماً كطريقي السلامة والندامة. وعلينا أن نحسم موقفنا منهما، بحيث نعرف بوضوح إلى أيهما ننحاز.
0 تعليقات:
إرسال تعليق